نُشِر المقال يوم 3 إبريل 2024م على موقع الميزان
رحل الصديق العزيز أسامة الشاذلي، فجأة، عن عمر ناهز 51 عاما، وبصرف النظر عن متاعب صحية كانت موجودة فإنه كان يعايشها باستمرار، بل كان يبدو بحالة طبيعية في أكثر أوقاته حتى إن كثيرين من حوله لم يكونوا يشعرون بمعاناته معها، إلا أنها تفاقمت دفعة فانتقل على إثر ذلك إلى المستشفى، وهناك جرى ما جرى ولقي ربه سريعا، كما كان سريعا في أغلب مهماته، تاركا ألما كبيرا للأصدقاء والأحباب، وذهولا حقيقيا للأولاد والأسرة، وحسرة لشريكة حياته وأعماله، وحبه الخالد، المبدعة العزيزة رشا الشامي.
أسامة بمثابة رجل لطيف حل ضيفا بجماعة إنسانية رحبت بقدومه ترحيبا هائلا، وما لبث أن استأذن وفارقها فبكت لطفه بالدماء لا الدموع.. لم تعرف لماذا جاء وفيم ذهب؟ “لاعرفوا إيه وداك ولا عرفوا إيه جابك”؟، لكنها وجدت نفسها مشغولة بآثاره الحميمة من غير ترتيب، ووجدت نفسها في ربكة شديدة وخواء صادم من بعده!
كان أسامة صحفيا نشيطا مقاتلا، عمل في الصحافة الورقية، ثم تفرغ لتأسيس المواقع الإلكترونية وبنائها، كان نشيطا لأن همته لم تفتر مهما واجه صعوبات وعراقيل، وكان مقاتلا لأنه كان يدعو إلى حصول الصحفيين الإلكترونيين على عضويتهم النقابية وحقوقهم الكاملة، متساوين مع صحفيي الورق، وقد كان جرئ الرأي عميق التحليل فيما يخص الشؤون الأدبية والفنية والرياضية التي كان يوليها أكثر اهتمامه، وإنما يكتب بيد خالية من المصالح وقلب شاغر من الأذى.
كان أيضا قاصا وروائيا وثابا متميزا، ما إن ينتهي من كتابة إلا يبدأ أخرى نادته بشغف أكبر متناسيا أختها السابقة، كمن يسابق الزمن في لعبة أو متاهة هو وحده من يدرك أسرارها وأبعادها، ولقد ترك مجموعتين قصصيتين (نديم العدم 2005، جمهورية الغابة العربية 2006)، وروايات عديدة تشهد بتقدمه في هذا المجال التنافسي الشاق، المجال الذي صار يسبق الشعر بمراحل منذ سنوات بعيدة، من بينها: سيد الأحلام، قهوة الحرية، كفر العبيط، نورماندي، سيرة عباد الشمس، أغسطس، نوستالجيا، وأخيرا السلطان، الرواية التي احتفى بصدورها في الدورة الأخيرة من معرض القاهرة الدولي للكتاب، فحمل لقبها قبل أن يغادر خفيفا.. هي السلطان وهو السلطان!
وثائقيا كان أسامة شديد الإخلاص في نطاق الأفلام الوثائقية، كمنتج ومخرج، ومن عجيب أنه كان يعد أفلامه عدا على صفحته بالسوشيال ميديا، ويتمنى، وقد يكون السبب اتضح الآن، أن تمكنه السنون من إنتاج المزيد وإخراج المزيد في هذا النطاق الذي كان ينزل لمزاولته نزول العاشق، ويتمم تنفيذه تتميم العاشق، ثم يعلن الانتهاء منه، استعدادا لآخر، إعلان العاشق، وهكذا دواليك!
بالأساس كان أسامة ضابطا في سلاح المدرعات المصري، تخرج في الكلية الحربية عام 1994، لكنه ترك الوظيفة الحساسة تفرغا لما يهوى، وإن لم تتركه خصال الجندية المصرية بكل الجسارة والشهامة والإقدام والوفاء، وظل لصيقا بمناسبات الجيش وأحداثه كأنه ما يزال في الخدمة بالضبط، لا ينثني عنه ولا يغيب البتة.
أتحدث عن صديق قريب للغاية، بيننا ما بيننا من الحكايات الصادقة في العمل والحياة، وجدته، قبل انتقاله إلى داره الأخروية وبعدها، واحدا من أنقى الذين عرفت مطلقا، ولقد أصابتني الدنيا بهمومها مرة واثنتين وثلاثا فسكت عن الكلام، ولم يقو على جعلي أتكلم بأريحية إلا هو، طلبها مني صراحة، وما ترددت في أن أقول له ما أقوله لنفسي مطمئنا، ولا أنسى ردود أفعاله النبيلة وهمساته المواسية الودود حينذاك.
من أحبوا أسامة فعلا فزوجته الحبيبة القائدة رشا الشامي موجودة، أمد الله عمرها وزاد خيرها، عليهم أن يستكملوا المحبة فيها؛ لأنها كانت النور الذي ترى به عيناه الطريق، ومن أحبوه فعلا فابنته الغالية فرح الشاذلي موجودة، أدام الله تألقها، عليهم أن يستكملوا المحبة فيها أيضا، مؤازرين مسيرتها الرياضية (حارس يد الأهلي ومنتخب مصر)؛ لأنها كانت مجمع آماله العريضة، وعلى الذين أحبوه فعلا أن يستكملوا محبته في تلاميذه الوافرين المخلصين بجملة مساراته، وعليهم أن ينشروا أقواله وأعماله، باتساع، وأن يتذكروه سرمديا، بالدعاء الطيب، كلما كانوا أقرب إلى الله الغفور الرحيم، وأن يتفقوا على سخاء قلبه وجماله الشخصي العام الباذخ النادر.
أسامة بمثابة رجل لطيف حل ضيفا بجماعة إنسانية رحبت بقدومه ترحيبا هائلا، وما لبث أن استأذن وفارقها فبكت لطفه بالدماء لا الدموع.. (عليه السلام حيث يرقد).