من دماغي

أسامة الشاذلي كتب: اللغة غذائنا الثاني الذي نموت بدونه

في بدايات القرن الثالث عشر الميلادي قام الملك فريدريك الثاني بعمل تجربة عجيبة ليكتشف أصل اللغات، حيث أحضر مجموعة من الأطفال الرضع حديثي الولادة وعزلهم تمامًا إلا عن حارس أبكم يغذيهم يوميًا، ليرى ما هي اللغة التي سينطقون بها وحدهم من دون تدخل المجتمع والبيئة المحيطة. المدهش أن الأطفال ماتوا جميعًا رغم الرعاية الغذائية والطبية ولم ينطقوا كلمة واحدة وكأن اللغة والكلام غذاء ثاني من دونه قد لا يحيا الإنسان.

لكن ماذا لو كان هذا الطعام مسممًا؟!
نعم عزيزي القارئ؛ نحن نتناول طعامًا مسممًا كل يوم، مع كل غيبة ونميمة وسخرية من شكل ولون وحجم أي شخص أو عاداته وثقافته. اختفت من حياتنا الكلمات التي تعبر عن الشكر والامتنان، عن الذوق والجمال، عن الحمد والنعمة والرضا، صرنا نشتم فنانًا أو لاعب كرة أحببناه إعجابًا به، احتلت لغاتنا العامية على امتداد الوطن العربي كلمات قبيحة تعبر عما وصل إليه طعام كلامنا الرديء.

انتشرت مواقع على شاكلة: “الصورة التي أشعلت مواقع التواصل الاجتماعي“، لتهبط أيضًا باللغة الصحفية إلى الحضيض، كنا صغاراً نشكو قارئ الجريدة ونطالبه بقراءة الكتب حتى لا يستمد ثقافته من جورنال، صارت لدينا الآن عشرات الآلاف من المواقع التي تتداول شائعات ومغالطات مقصودة يستمد منها الملايين سمًا جديدًا كل يوم، حتى المواقع الكبيرة صارت تنشر أخباراً مبتذلة من أجل “الترافيك” والضحية المزيد من انحطاط الذوق العام.

الحروف التي نأكلها لماذا صارت مُرّة؟
لأن كل مظاهر الجمال تختفي يوماً بعد يوم من مجتمعاتنا ويحل بدلاً منها قبح لا يمكن مواجهته، حتى إننا نتمنى أحياناً لو فقدنا النطق ربما يتوقف القبح.
لغتنا الجميلة التي يزيد اغترابها يومًا بعد يوم، والتي يراها بعضهم لا تليق بمستواه الاجتماعي كتابة وقراءة ونطقًا فيدفع بأطفاله دفعًا إلى تعلم اللغات الأجنبية والنطق بها وإجادتها دون إجادة العربية، لنفقد هويتنا يوماً بعد يوم.
من يستورد غذاءه لا يملك كلمته، ومن تنحط كلمته أيضًا لن يملك أبدًا غذاءه.

اللغة
مقال اللغة غذائنا الثاني الذي نموت بدونه
أسامة الشاذلي

روائي وكاتب وناقد مصري تخرج من الكلية الحربية عام 1994 وظل بالخدمة حتى استقالته في يناير 2005، ليتفرغ بعدها لدراسة النقد السينمائي والكتابة، قام الشاذلي بتأسيس مواقع إلكترونية متخصصة في المحتوى النوعي “دائم الخضرة” مثل “كسرة – المولد – الميزان” إضافة إلى المشاركة في تأسيس موقع السينما دوت كوم، وكتب مقالات في كثير من المؤسسات الصحفية، إضافة إلى إنتاجه الأدبي حيث كتب ٨ روايات ومجموعتين قصصيتين، ولأسامة الشاذلي تجربة في كتابة الشعر الغنائي إلى جانب تحريره وإعداده أعمال إذاعية وبرامج تلفزيونية، إضافة لإنتاج وصناعة أفلام وثائقية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *