قبل ما يزيد عن 150 عامًا استقبلت المرأة السورية العجوز ضاربة الودع الغجرية التي مرت بديارهم في ريف دمشق حين كان زوجها الشيخ على منبر الجامع يلقي خطبة الجمعة، ابتسمت لها وجلست الغجرية بين يديها تداعب الودع، وقبل عودة الشيخ وانتهاء سواء طعام الغداء كانت قد ودعتها بعد صمت طويل انتهى بجملة واحدة:
– نجم يخرج من هذا البيت ليضيء سماء مصر لما يزيد عن 15 عاماً.
لم تفهم سيدة البيت، فقط روت لزوجها بعد عودته، وابتسما سوية ونسيا الحكاية سريعاً.
***
قرقيرة قرية صغيرة هادئة في محافظة الدقهلية تفصلها عن القاهرة 110 كيلومترات يعود إليها الأستاذ إبراهيم الخطيب عقب نهاية عمله في مركز أجا عصر كل يوم.
تمضي الحياة فيها هادئة إلا في بيته حيث 9 من الأطفال المتقاربين عمريًا، والذين يعلو ضجيجهم على أي ضجيج.
يستقبل الرجل في 30 أكتوبر 1954 طفله العاشر وعلى وجهه ابتسامة رضا، يلتف الأطفال حوله مطالبين باسم رقم 10 فيقول هامسًا:
– محمود .. محمود الخطيب.
وكأن رقم 10 كان قدرًا لهذا الطفل الوليد الذي تعلم المشي في هذه القرية واستقبل أختًا أخيرة بعد ميلاده، وداعب الكرة في أحد أجرانها ظهيرة يومًا ما.
عاد محمود سعيدًا إلى البيت، لم يعرف لماذا، لكنه انتظر الوالد حتى عاد وقال له بحماس طفل سعيد:
– أنا عايز كرة
لم يلتفت الوالد لطلب الطفل لأنه كان مشغولاً بدعوة زوجته للاستعداد للانتقال إلى القاهرة حيث تمت ترقيته للعمل كمفتش في وزارة الأوقاف.
***
قد تضايق الشوارع الضيقة في حي عين شمس قادة السيارات، وأولئك الباحثين عن رفاهية الشوارع العريضة التي لا تنجب نجومًا في العادة، بينما يظل محمود الخطيب مدينًا لتلك الشوارع الضيقة بجزء كبير من موهبته، حيث لم يكن أمام الصبي الصغير سواها ليمارس لعبته الوحيدة مع أقرانه.
فيها أتقن المراوغة في أضيق المساحات، وفيها فاق أقرانه لدرجة أن الأكبر سنًا كانوا يتمنون ويطلبون منه مشاركتهم اللعب ومنها خطا خطوات أولى جديدة هذه المرة في اتجاه النادي الأقرب جغرافيًا للبيت نادي النصر، ليلتقي بالمدرب الصغير ممدوح دندش المسؤول عن ناشئي النادي ويضمه فورًا إلى فريقه.
لم يتأخر الخطيب يومًا عن أي تمرين وهو في الخامسة عشر من عمره، كان فقط ينطلق عقب التمرين منصرفًا بسرعة شديدة أدهشت مدربه حتى إنه تبعه يومًا ليعرف ماذا يفعل؟
وأمام دار سينما كان اللاعب الصغير الذي يقتطع جزءًا من مصروفه من أجل تذكرة سينما يستعد لدخول عرض جديد لا ليشاهد الفيلم بل من أجل متابعة الفواصل التي تستعرض أهدافًا للنجمين دي ستيفانو وبيليه.
***
بعد عام من التدريب المنتظم أراد محمود الخطيب الالتحاق بالثانوية الرياضية من أجل ممارسة لعبته المفضلة التي صار عاشقًا لها، ولكنه رسب للمرة الأولى والأخيرة في حياته، لم يقتنع المسؤولون بموهبة المراهق ذي الـ16 عامًا.
انصرف حزينًا فهو لم يعتد أن تخونه الكرة، فقط تطاوعه في كل أوان، تلتصق برجله في الملعب وكأنها تخشى وجود أي مسافة بينهما، لا تغادره إلا طمعًا في دفء الشباك.
لكن فتحي نصير مدرب ناشئي الأهلي وأحد أعضاء لجنة المدرسة رأى ما لم تره اللجنة وقرر ضم الخطيب إلى النادي الأهلي وكذلك إلى المدرسة.
رفض نادي النصر التفريط في نجمه الصغير فبقي عامًا جديدًا يتدرب فيه ثم انتقل في النهاية مقابل طاقم ملابس للفريق و4 كرات وهو مبلغ لا يزيد عن 50 جنيهًا بكل الأحوال.
وفي مباراته الأولى مع فريق 18 سنة أحرز الخطيب 4 أهداف في فريقه القديم.
***
يعرف الكثيرون أن فاروق جعفر زميل الخطيب في الدراسة طلب من مدربيه في الزمالك ضم الخطيب قبل النادي الأهلي وأنهم أيضًا لم يقتنعوا بموهبته، لكنهم جميعًا بعد ذلك اقتنعوا لطلب جعفر بعدما شارك الخطيب في مباراته الأولى ضد فريق 18 سنة في الزمالك وفاز الأهلي 7 – 1 وأحرز الخطيب وحده 3 أهداف، ربما أخفى فاروق جعفر أسماء من رفضوا، ربما كان تاريخ الكرة سيتغير داخل الناديين الأكبر في مصر لو كانوا وافقوا.
لكن التاريخ الأهم من هذا هو 15 أكتوبر عام 1972 عندما لعب الخطيب مباراته الرسمية الأولى مع الفريق الأول ضد نادي البلاستيك بناء على توصية صالح سليم وعبده صالح الوحش وانتهت المباراة بفوز الأهلي 5 – 1 أحرز منها الخطيب 3 أهداف.
وجدت الكرة أخيرًا من يجيد مداعبتها وهي مثل أي أنثى جميلة تهوى المداعبة، ووجدت رجلاً يفهمها.
****
النجم الشاب يتهمونه بالأنانية، يراه بعضهم لا يرى سوى المرمى في منطقة الجزاء، يشكونه إلى «هيديكوتي» المدير الفني، فيطالبه أمامهم بالاستمرار في رؤية المرمى فقط، وأنه خلق على ذلك المستطيل الأخضر ليرى المرمى فقط.
وفي عام 78 يجلس النجم الشاب على دكة الاحتياطي رغمًا عنه غير قادر على المشاركة في نهائي كأس مصر أمام الزمالك الغريم التقليدي، يطالب الأطباء باستبعاده نهائيًا من القائمة لكن «هيديكوتي» يصر على وجوده في قائمة الاحتياطي.
ينتهي الشوط الأول بهزيمة الأهلي 2 -1، فيطلب المدير الفني من نجمه المشاركة خلال الشوط الثاني، تجبره الحرارة العالية على قلة الحركة، لا يرى الملعب جيدًا، ويبدو كل ما حوله مشوشًا، فقط يبقى المرمى الذي طلب منه مدربه ألا يرى سواه، فقط يحفظ مكانه دون الحاجة إلى البصر، يهتدي إليه بالبصيرة، يحرز هدف التعادل ويحرز زميليه جمال عبد الحميد وطاهر الشيخ هدفين ليفوز الأهلى بالمباراة 4 – 2 وبالكأس.
بعد ما يزيد عن 9 سنين، وفي مباراته الأخيرة مع النادي الأهلي في نهائي بطولة أفريقيا لأبطال الكؤوس، كان الخطيب قد عاد للتو من عملية قريبة جدًا من العين، كان لا يرى جيدًا مرة أخرى، ودخل المباراة تكريماً له في الربع ساعة الأخيرة كي يحمل الكأس بعد تفوق الأهلي بهدفين.
هذه المرة كانت مدارك اللاعب صارت أوسع، وكانت خبراته ومهاراته صارت أعرض، كان يحفظ كل سنتيمتر في أرضية الملعب بدافع شغف عظيم لم يفارقه كلما لمست قدمه العشب الأخضر، ليقدم معزوفة من مجموعة من المراوغات والتمريرات المبهرة انتزعت آهات الجماهير طيلة 15 دقيقة كاملة، وكأنها معزوفة على البيانو تمنى المستمع ألا تنتهي، أطلق الحكم صافرته لينزل الستار.
مشوار طويل استمر لـ 17 عامًا خاض خلالها النجم رقم 10 مع ناديه 266 مباراة منها 199 في الدوري و18 في كأس مصر و29 في بطولة أفريقيا للأندية أبطال الدوري و20 في بطولة أفريقيا للأندية أبطال الكؤوس وصل إجمالي أهداف محمود الخطيب إلى154 هدفًا، كان منها 9 أهداف في كأس مصر و36 في بطولات أفريقيا والباقي في الدوري إلى جانب 27 هدفًا مع منتخب مصر ما بين مباريات رسمية وودية وأحرز مع المنتخب كأس أفريقيا 1986، ووصل معه إلى دور الـ 8 في أولمبياد لوس أنجلوس 1984.
أحرز لقب مصر الوحيد في مسابقة أفضل لاعب أفريقي عام 83.
****
وأمام ما يقارب 120 ألف متفرج لعب الخطيب مباراة اعتزال محمود الخطيب في 30 ديسمبر عام 88، بين بكاء أطفال ومراهقين عشقوا الكرة فقط لأنهم شاهدوا بيبو – كنت أحدهم بالمناسبة – وبين عشرات الآلاف الذين طالبوه بالتراجع عن قراره، وأمام كلمته المقتضبة التي أنهاها بعبارة
– ألف شكر.
كان النجم الرائع يرى مسيرة من سبقوه، فقرر الاعتزال في القمة ليبقى في القمة حتى بعد اعتزاله بأكثر من 24 عامًا، يرى جمهور الأهلى كل موهوب مبشر خليفة للخطيب.. ويحلمون كل موسم بخطيب جديد..
وحدك ستقاوم يابيبو هذا الغر لأنه قدرك .. وحدك ستقاوم لأننا في زمن الهزيمة وانت الفوز الوحيد مهما شوهوا صورتك وحاولوا إقناعنا بغير ذلك..نحن نؤمن بك ونصدقك
أسامة الشاذلي
روائي وكاتب وناقد مصري تخرج من الكلية الحربية عام 1994 وظل بالخدمة حتى استقالته في يناير 2005، ليتفرغ بعدها لدراسة النقد السينمائي والكتابة، قام الشاذلي بتأسيس مواقع إلكترونية متخصصة في المحتوى النوعي “دائم الخضرة” مثل “كسرة – المولد – الميزان” إضافة إلى المشاركة في تأسيس موقع السينما دوت كوم، وكتب مقالات في كثير من المؤسسات الصحفية، إضافة إلى إنتاجه الأدبي حيث كتب ٨ روايات ومجموعتين قصصيتين، ولأسامة الشاذلي تجربة في كتابة الشعر الغنائي إلى جانب تحريره وإعداده أعمال إذاعية وبرامج تلفزيونية، إضافة لإنتاج وصناعة أفلام وثائقية.