نُشِر المقال يوم 30 نوفمبر 2019م على موقع الميزان
الأصل في معرفة الله هو الإدراك، ويستلزم الإدراك قلبًا وعقلا يستطيعان التمييز، وعلى هذا الأساس كانت الأديان عبارة عن دعوة صريحة للتفكير خارج صندوق عصرها وواقعه، وهو ما يثير الدهشة عند مراجعة ما آل إليه آخر الأديان السماوية الإسلام، الذي أتى به النبي الخاتم، والذي كان يحض على حرية الرأي والإبداع والتفكير إلى أقصى درجة، قبل أن يصل به أتباعه إلى إلغاء العقل وتحريم التفكير واستسهال التكفير، مما أصاب أصحابه بالتخلف والسير في مؤخرة الأمم، واستعرض هنا كيف حرض الدين الإسلامي على التفكير ووضعه في منزلة الفريضة لدرجة أنه يعد الفريضة السادسة أو الغائبة تحت مسمى “إعمال العقل”.
حيث قسَّم علماء أصول الفقه أدلةَ الشرع – من القرآن والسنَّة – من حيث دلالتها إلى قسمين : نصوص قطعية الدلالة، ونصوص ظنية الدلالة .
والنصوص قطعية الدلالة في القرآن قليلة للغاية كما وصفها الله تعالى في قوله : {هوَ الَّذي أَنزلَ عليكَ الكتابَ منهُ آياتٌ محكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتَابِ وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فأمَّا الَّذين في قُلُوبِهِم زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ منهُ ابتِغَاءَ الفِتنَةِ وابتِغَاءَ تأويلِهِ وما يَعلَمُ تأويلَهُ إلاَّ الله والرَّاسِخونَ في العِلمِ يَقولونَ آمَنَّا به كُلٌّ من عند ربِّنا وما يَذَّكَّرُ إلاَّ أُولُوا الأَلبَابِ(7)} سورة آل عمران.
وحسبما عرفنا من اللغة العربية أن جمع المؤنث في “آيات محكمات” ينم عن القلة، بينما جمع التكسير في “آخر متشابهات” يدل على الكثرة، ليؤكد رب العزة أن أغلب نصوص القرآن ظنية الدلالة ليتيح لعباده مساحة أكبر من إعمال العقل، ونضرب مثلاً هنا في أية حد السرقة والتي كان نصها { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }، والتي يعتبر القطع فيها هو النص قطعي الدلالة الوحيد، بينما يعتبر السارق وكيفية القطع ظني الدلالة لأنه لم يضع تعريفاً للسارق وهو ما أتاح لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعد ذلك عدم قطع يد السارق في عام المجاعة – 17 أو 18 هجريًا – لأنه اعتبر تعريف السارق هو من يسرق وهو غير محتاج، بينما اختلف العلماء في كيفية القطع وهو الاختلاف الذي يحض على الاجتهاد والتفكير، والذي ينتج عنه خلاف ليكون رحمة بالأمة.
حتى السنة اعتبرت فيها أصول الفقه على الأحاديث المتواترة عن الثقات والتي لا تزيد عن 50 حديثاً لتكون قطعية الدلالة، وهو ما ينكره تماماً التيار الرجعي الذي أغلق باب الاجتهاد يوماً ومازال يحاول قتل العقول منعها من العمل حتى الآن.
وهو ما دعاهم لتكفير بن عربي الذي وصفه الإمام حسن البصري بـ أعبد أهل الأرض حين قال وهو ينفض جُبّته ويقول : ما في الجـُبـّة إلا الله، لأنهم ظنوه يصف نفسه بالألوهية وما كان يقصد سوى أنه لا حقيقة إلا الله الموجود في كل شيء وما عداه لا شيء.
كذلك توفر ظنية الدلالة الصلاحية لآيات الله لكل العصور، وتمنعها من التجمد عند عصر واحد، لذلك تستطيع بكثير من الدهشة أن تغضب من جماعة توقفت عند لبس الجلباب وإطلاق اللحى وتحريم الانتخابات والديمقراطية وعمل المرأة وغيرها، وكأن الزمن تجمد عند عصر النبوة الزمني، على الرغم من أن الدين ذاته بريء من هذا التجمد.
بل والأصل في الدين الإسلامي هو الاختلاف، حيث أتاحت الظنية ورحبت باختلاف الرأي على حسب الاجتهاد، بل وزادت ومنحت من يجتهد فيخطئ أجرًا ومن أصاب أجرين، وهو ما يسمح لي أن أعتقد ولا أخالف اعتقادك، بل ولا أجبرك على الموافقة على اعتقادي، لأن الخطأ قد يكون نصيباً لاجتهادي أو اجتهادك، وهو ما جعل الإسلام يحرم المجادلة، لأنها محاولة لفرد الرأي على الرأي الآخر، لهذا قال الإمام الشافعي ” ما جادلت أحداً إلا تمنّيت أن يظهِر الله الحق على لسانه دوني“، لأن الأصل في الاجتهاد هو البحث عن الحقيقة، لا الانتصار للرأي الذي اقتنعت به.
كان طبيعيًا أن يكمل الله الدين ويتممه بدعوة لا تنقضي بإعمال العقل والتفكير، لأن هذا هو ما كرم الإنسان به عن الحيوان، بل وتلك الأمانة التي حملها الإنسان ورفضتها الجبال، ولهذا قال الله تعالى ”إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ“، حيث يُعرف الله بالعلم والتفكير، لا بالجهل ولا التكفير.
خاصةً وأن ما أوصلنا إلى هذا هو ضعف التلاميذ الذين تبعوا إمامًا كبيرًا ذو عقل حر، فقدسوا كلامه وخافوا أن يحيدوا عنه، لضعف عقولهم وعجزها عن التفكير والإبداع، ونسوا أن الإسلام لم يقدس أفرادًا على الإطلاق، ولم يوص سوى بحفظ الكتاب والسنة، والسبب الثاني هو ضعف الأئمة أمام السياسة وفتواهم من أجل الحكام أو كما قال أبو حازم”إن الناس لما كانوا على الصواب، كانت الأمراء تحتاج إلى العلماء، وكانت العلماء تفر بدينها من الأمراء، فلما رأى ذلك قوم من أذلة الناس تعلموا العلم وأتوا به إلى الأمراء فاستغنت به عن العلماء، واجتمع القوم على المعصية فسقطوا”، ولهذا برز عبر كل العصور الأئمة الذين قاوموا السلطان مثل بن تيمية والعز بن عبد السلام .
إخواني المتحجرون “الأذلة” حلوا عن رؤوس أمتنا ودعوا عقولها التي ساهمتم في تخريبها منذ زمان بعيد، حتى تعود إلى الطريق القويم والدين الحقيقي بحريتها في التفكير وقدرتها على الوصول إلى الحقيقة، بعيداً عن الدين الجديد الذي تدعون إليه وما أنزل الله به من سلطان.
أسامة الشاذلي
روائي وكاتب وناقد مصري تخرج من الكلية الحربية عام 1994 وظل بالخدمة حتى استقالته في يناير 2005، ليتفرغ بعدها لدراسة النقد السينمائي والكتابة، قام الشاذلي بتأسيس مواقع إلكترونية متخصصة في المحتوى النوعي “دائم الخضرة” مثل “كسرة – المولد – الميزان” إضافة إلى المشاركة في تأسيس موقع السينما دوت كوم، وكتب مقالات في كثير من المؤسسات الصحفية، إضافة إلى إنتاجه الأدبي حيث كتب ٨ روايات ومجموعتين قصصيتين، ولأسامة الشاذلي تجربة في كتابة الشعر الغنائي إلى جانب تحريره وإعداده أعمال إذاعية وبرامج تلفزيونية، إضافة لإنتاج وصناعة أفلام وثائقية.